منتدي الحسيناب الشموخ
مرحباً بك زائرا عزيزا في منتدي الحسيناب الشموخ

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي الحسيناب الشموخ
مرحباً بك زائرا عزيزا في منتدي الحسيناب الشموخ
منتدي الحسيناب الشموخ
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
المواضيع الأخيرة
» صور من البلد
نعجة ريلــــة Emptyالثلاثاء يونيو 13, 2023 2:07 pm من طرف احمد محمدنور

» المرأة في الماضي وفي الحاضر
نعجة ريلــــة Emptyالسبت نوفمبر 03, 2012 10:25 pm من طرف محمد داردوق

» جائزة الطيب صالح العالمية
نعجة ريلــــة Emptyالأربعاء أغسطس 17, 2011 5:41 pm من طرف ود دبني

» سيره ذاتيه
نعجة ريلــــة Emptyالأربعاء يونيو 29, 2011 9:54 pm من طرف محمد داردوق

» الصلاة علي النبي الامي
نعجة ريلــــة Emptyالأربعاء يونيو 29, 2011 7:55 pm من طرف محمد داردوق

» الصلاة علي النبي
نعجة ريلــــة Emptyالأربعاء مايو 18, 2011 9:41 pm من طرف محمد داردوق

» الحسيناب والاهتمام بتحفيظ القران
نعجة ريلــــة Emptyالإثنين مارس 28, 2011 12:53 am من طرف محمد داردوق

» تاريخ الهندسة الميكانيكية عند العرب والمسلمين ..!!
نعجة ريلــــة Emptyالسبت يناير 29, 2011 11:47 pm من طرف رتيبة سليماني

» فضــل سورة الأخلاص
نعجة ريلــــة Emptyالخميس ديسمبر 23, 2010 8:16 pm من طرف محمد داردوق

المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 3 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 3 زائر

لا أحد

أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 29 بتاريخ الجمعة أبريل 28, 2023 9:33 am
الاف الدعا ء بالشفاء العاجل لمدير مدرسة الككر العريقة

الإثنين يوليو 26, 2010 5:57 pm من طرف حزيفة حاج الكجم

ود احمد يا استاز الاجيال اشفية شفاء عاجلا غير اجل

تعاليق: 4

بسم الله الرحمن الرحيم: "وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون"

الأحد يوليو 25, 2010 8:36 pm من طرف Hussein -abul-Haj

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم



[ قراءة كاملة ]

تعاليق: 7

بحـث
 
 

نتائج البحث
 


Rechercher بحث متقدم


نعجة ريلــــة

اذهب الى الأسفل

نعجة ريلــــة Empty نعجة ريلــــة

مُساهمة من طرف Hussein -abul-Haj الأحد يوليو 18, 2010 10:13 pm

نعجة ريلــــة

الريلة، القمحية النحيلة، هى ثانية اثنتين لأمٍ وأبٍ منذ تفتَّحت عيناى على حقيقة الأشياء لم أرهما يعيشان تحت سقفٍ واحدٍ فى هذا الحى، حى البساتين. فهما متباعدان فى الحميمية و المسافة. فالأُم من فريق قِدّام، والأُب من فريق وَرَا. كنت أظنها يتيمة، بل أبعد من ذلك، فقد كان يخطر ببالى أنَّ الريلة وأُختها حليوة بنتان لأمٍ بتول. والذى رسَّخَ هذا المفهوم أكثر فى ذهنى أنَّ حى البساتين من أقصاه إلى أدناه ينسب الريلة إلى أُمها الزين بت - طه، فيناديها: "بالريلة بت الزين"، ولا ينسبها إلى أبيها بيد أنّه حىٌ وموحود. وذلك لعمرى، ليس نكايةً فى أبيها، فالرجال محاطون بهالة من القداسة فى هذه البقعة من الأرض. ولكن لأنَّ أُمَّها هى أُسُّ حياتها وتنشئتها، و يا لها من أمٍ جليلةٍ و مكافحة.

رجعت الزين، حين سُرِّحتْ، لتعيش فى بيت والدها الَّلزُوم طه المليح ومعها بنتاها. وهى تدرك بحكم ثقافة ما هو سائد، أنَّ والدها المليح ربما يكون قد سجَّل أطيانه ونخيله فى أسماء أبنائه الذكور. وما كان ذلك يشغلُ بالَها، فالأبُ لَزَومٌ والأُخُ لَزُوم. ويزيد من يقينها بالأمر ما كانت تسمعه من أبيها حين يصف بناتها بأنهُنَّ حارساتُ نعمةٍ لا أكثر. وهو يشير بذلك، ومن غير وعىٍ منه، إلى مَكمَنِ المكابدةِ النبيلة. فهل كان يخطر بِبَالِ المليح أن يموت ذخر الحوبة وشيَّال التقيلة بتغيير شروط اللعب فى الداخل أو فى الخارج؟

كان ذلك الزمان سمحاً بِعِظمِ رأسماله الإجتماعى. فالمرأة لا تفارق بيتَ الزوجيةِ إلاَّ بأجلٍ واحدٍ هو الموت. فزواجُ ذوى القربى يجعل الطرفين يعيشان معاً على عِلاَّتِ كليهما، وإنْ تململا لاذا إلى جمة عبد الماجد. وهى إستراحة يلجأ إليها المنفق، الزوجُ أو المُطلِقُ، برفع يدِهِ عن الإنفاق على من يعول إتكالاً على نسيبه.

ولا أحد يعرف إلى اليوم، لماذا اختارت الزين الخروج من بيتِ الزوجية بهذا الشكل النهائي المتمرِّد. فالبيوت أسرار، لا يسبر غورَها إلاَّ المعنيون بالأمر.

أما أبو الريلة فقد تمرَّدَ هو الآخر على الإنفاق على بناته، متعللاً بِعِللٍ يتأوَّلها من حرمانِهِ من ميراثِ مَنْ كانتْ زوجتُه. ومن ثمّ إنهمكَ فى جمع المال ليتزوج بأخرى. ولما فعل، فإنَّ الحياة و مليكة القلب الجديدة سيطرتا على كل شئ. بل إنّ الزوجة الجديدة منعته من الذهاب إلى البيت القديم ولو من باب بِرِّ الرَّحِم، ظنّاً منها أنَّه قد يحنّ إلى الحبيب الأوّل. و قد إنتهى بها الأمر أنْ هدّدته بحرق نفسها إنْ رأته يوماً ما هناك. بالتالى فإنَّ أبا الريلةِ قد أذعن لهذه الإرادة، وجافى الرحم القديمة، والتى قد تعنى تنبيهه إلى التقصير و تذكيره بالمسئولية، وبدأ يضاعف من الإحسان إلى المرأة الجديدة الشابة. لِمَ لا، و الزوجة الجديدة غضة و بضة، وهى تبالغ فى إهتمامها به، وفوق ذلك قد أنفق عليها ما أنفقَ من أموال، تلك التى كدَّسها بإتكاءته على نسيبه، تشفياً منه إذْ حرمه من الإنتفاع بميراث إبنته حين سجله فى أسماءِ إخوانها.

وكان إذا صادف بناته فى تقاطعاتِ الحياة ومنعرجاتها، وقليلٌ ما كان يفعل، يقول لهما أننى أريد لكما الخير ولكنّ العينَ بصيرةٌ واليدَ قصيرة. وكانتا تغفران له تلك الغفلة وذلكم التقصير، وفى النّفسِ شيءٌ من حتّى. وهكذا يتمادى أبو الريلةِ فى الشحِّ، فيبخلُ على نفسه. وكان يقول ذلك وهو يعلمُ فى داخل نفسه أنّه منحازٌ لسيدةِ البيتِ الجديدة ويسعى بكلِّ ما أُوتىَ من قدرة لتأمين القوت الضرورى لها ولأبنائها.

(2)

على أىِّ حال، فالزين "بت- طه" والدة الريلة منذ رأيتها، رأيتها عجوزاً معوزاً. وسبب هذا العِوَز هو أنَّ إخوتها قد عجزوا عملياً عن كفالتها بسبب تفتت هذا الميراث بين بنتٍ وولد. ورويدا رويدا إقتصر دور ذخر الحوبة على أُسرته الصغيرة. ولربما، وبمؤامرة من وول ستريت، قد يتم القضاء على العائل الواحد داخل الأُسرة الواحدة الصغيرة، ويتحول كل أفراد الأسرة الى خلية نحلٍ تخدم السوق الرأسمالية فى أماكن تقدمها. أما من حُرِمَ ميراثه، فله اللهُ و عيشُ السوق. وهذا حال الزين "بت – طه"، فعليها الآن هى وبنتيها أن يواجهن السوق.

ومن غيرها؟، فالريلة بين عشية وضحاها أصبحتْ شيّالةَ الثقيلة، وهى المسئولة عن الإنفاق وعن كل شئ فى هذا البيت، خاصةً بعد أنْ تزوجت أُختها حليوة. لايوجد مصدر رزقٍ ثابتٍ لهذا البيت إلاّ من عيدان نخيلٍ خصصها له العرف، فعطاؤها حولى وغير مستقر، وهى فى معظم الأحوال موقوفة لسداد ديون كثيرة قلّما تقابلها كلّها.

فالريلة بدأت مغالبة الفقر والعوز و هذه الحال، بتمشيط شعر نساء الحى، بضفر البروش ، ببيع التُرمُس، و الجُرُمْ والحُمّص، التركين وحلاوة دِرْبِسْ، وببيع ثمار المانجو، والتى عادة ما تشتريها خضراء و بسعر رخيص وتغملها فى الدقيق لتستوى بسرعة أكثر وتبيعها بسعر أكبر. كانت إذا أمسكت بضفيرة السعف كثيراً ما تدندن بأُغنيةً من أغانى البنات على أيامنا تلك، مطلعها على ما أذكر: " نايلو فى نايلو الما عندو قِرِشْ الرماد كايلو".

لقد جربت الريلة الحياة، وجربتها الحياة، وهذا الواقع جعل منها شخصاً حادّ الطبع مع كل شئ من حولها، و هو فى عوالمَ أُخرى يُورثُ الجنون. وبالرغم من كل هذا، فالريلة أحد المشاركين الفاعلين فى العمل الطوعى النسوى فى قرى منحنى النيل، بل هى رئيسة الجمعية النسوية بحى البساتين. وفوق ذلك فإنَّ الريلة قد مَحَتْ أميّتَها ضمن عدد من النساء فى حى البساتين وقد منحتهنَّ الدولة شهادة إكمال الصف السادس الإبتدائى.

ومع جمال اسمها هذا، إلاّ أنّ واقعها الحياتى غيّبَ عنها الكثير مما يطلبه الرجالُ عادة فى النساء. فهى، نعم، ذات حسبٍ ونسبْ، ولكن عيشها خشن وجمالها خشن، والمرأة من أمثالها، فى هذا الجزء من العالم، لو لا تذكير الشعراء لها من وقتٍ لآخر بأنّها أُنثى، لما انتبهت لإنوثتها. فلا أثر لحكومة ولا لمنظومات مجتمع مدنى تدافع عنهنّ. فهذا الجزء من العالم لحسن حظه أو لسوء حظه، لم تبلغه التقدمية، بالرغم من أنّ أوّل سكرتير لحزب تقدمى سودانى فهو من منحنى النيل، وكاد الثانى أن يكون منه لو لا، أسفنا عليه، أنه فقد عقله. ولو قلت للريلة لماذا لم يصل إليكم التقدميون لقالت: "عَىْ النّهايم لا وَرَا"، فالعبارةُ غليظةٌ عليها. ولأنّ ما بينى وبينها عامرٌ رُبَمَا قالتْ: "ديل قِشيريين مُدنْ، ما حا يجو لجحور مثل جحورنا دى، نحنا كان ما الشاعر، وَ وَدْ حُمَّدْ ـ صالحْ، مين كان حا يفرز إننا حريم أو رجال". و الحق يقال أنّ السودان من أقصاه إلى أدناه يكاد يكوّن تصوراً ما للحسناوات اللآئى غنّى لهن الشاعر، تَكَادُ تُلامِسُهُنّ فى كل قصيدةٍ من قصائده . كما أنّ العالم، كل العالم، يعرف البَنون المرأةَ الضكرية التى كانت تركب الحمار وتذهب فى صفوف الرجال معزيةً أو مهنئة. إلى أن سلّطَ اللهُ عليها إبنَ عمٍ لها فتزوجها بعد لأىٍ وجهد. وكان فى إعتقادها أن ذلك زواج رجلٍ لرجلْ. فلما دخل عليها، خرجتْ بعد اسبوعين وهى تندبُ حظَّها فى قولةٍ مشهورةٍ و راسخة، حين إلتقتْ بنساء منحنى النيل. فقالت لهنَّ: " يا بنات الكلبْ إنْتَنْ ما بِتْقُولَنْ العِرِسْ دا سَمِحْ مِتل دا". فضحكنَ كُلّهُنُ فى استحياءٍ، ضحِكاً سرّبَ إليها طاقةً من الخفر، فلم يرها رجلٌ بعد ذلك اليوم. وإذا خرجتْ تخرجُ ملفوفةً فى الحياءِ فلا يعرفها أحد إلاّ بكثرةِ روائحِ الحناءِ والدلكةِ والدخان. أما المتهكمون فكانوا إذا إشتمُّوا رائحةَ الطلحِ المحروقِ، يقومون بتحريف أُغنية الشاعر ود الرضى، أغنية الحقيبة المعروفة، فيقولون : "الطابق الساونا، بدلاً عن الطابق البوخة"، وذلك للتمويه. وبقدرةِ قادر تذوب البنون الضكرية وتعبقُ مكانها البنون مضاعفةُ ساونا الطلح المحروق.

تلك هى الريلة، وهى بحسب المقاييس المحلية للجمال فى منحى النيل إمرأة نحيلة، إذا أقبلت أو أدبرت فلن تلاحظ فروقاً مهمة على جسدها. لغةُ جسدِها مُحائدة، إذا صافحتها لن تجد معطيات تبعث على الّلذة من كثرة استخدام المِنجل و حبل الدلو وتقليع العميوقا والرِمِتْ (أنواع من الحشائش) وبناء بيتها وتبليط جدرانه وعمل القُرَّاصة والفطائر. واذا رأيتها تحمل قيروانة (صفيحةً او جركانة) مملوءة بالماء على رأسها من بئرٍ أو بحرْ، فإنّك لتشفقُ عليها من كثرةِ ما تتلوّى تحتها، تماماً كما تتلوّى نخلةٌ محمّلةٌ بالعراجين. وفوق ذلك، فالرمالُ تميدُ تحت سبتيّتيها، ومخرتيهما تكشحان، فى إيقاعٍ، حباتٍ من الرملِ الساخنِ على ساقيها النحيلتين، فيزيدها ذلك عنتاً إلى عنتها.

(3)

الناسُ فى حى البساتين يحترفون الزراعة (بستانية كالنخيل والموالح، أومحصولية كالحنطة والذرة والفول النوبى) وتربية الماشية بغرضِ الأكتفاءِ الذاتى. ذلك المصطلح الإستعمارى المكبِّل لطاقات الشعوب، والصارف لوعيها عن المسارات الحقيقية للتنمية، واليحصرها فى المفهوم الأمنى. وهذا هو القانون السائد فى الحضر وفى هذه الأمصار. لذلك فقليلٌ من تجاوز الزراعة الى سواها، كالتجارة والصناعة، وربما بشئٍ من الحيلة والمكر. وقليلٌ من تجاوز التعليم العام إلى العالى، كأصحاب الذكاء الخارق ممن كان يظن المستعمر أنَّهم أرض خصبة لإستزراع دسائسه. أما النساء، خاصةً كأمثالِ الزين وبناتها، فلهنَّ الله وعيش السوق. وبالمقابل، فإنَّ المستعمر أطلق العنان لتنمية حقيقية، وأسس لدولة الرفاهية منذ عام 1911 فى بلده. و التى فيها النساء كأمثال الزين وبناتها فى كامل زينتهنَّ العقلية والجسدية، إلاَّ من أبيْنَ، وقليلٌ ما هنّ.

فالناسُ فى حىِّ البساتين يمجدون الزراعة وتربية المواشى، ولهم فى ذلك قصَصٌ وعِبَرْ. فأحد أقرباء الريلة له مقولة مشهورة فى هذا الشأن، يقول إبنُ الوليد: "أنّ الأبن ربما يكون عاقّاً، لكن نونين لا تعقَّان صاحبهما، النخلة والنعجة". لذلك كان عرق الناس قسمةً بين زراعتهم وأنعامهم. أيَّاً كان الأمر، فليست للزين بت- طه بساتينٌ ولا أرضٌ بورٌ كى تزرعها الريلة بالنخيل، فقد ذهب تُراثُها إلى إخوتها. وعلاوةُ على ذلك، فإنْ كانت هناك أرضٌ تُزرع لما استطاعت الريلة زراعتها بالنخيل، لأنّ النخيل يحتاج إلى ما يُقارب الأربع سنوات كى يعطى عطاءاً جزيلاً.

أما الريلة، فقد ألهمها اللهُ اضطراداً مع واقعها و حسها الرأسمالى الجنينى، ذات حصاد، أنْ تشترىَ عَبُوراً (نعجة). والسبب الظاهرى لهذا الإلهام هو مللها من كثرة سؤالها الجيران أنْ يعطوها لبناً، أو سمناً، أو دقيقاً، خاصةً بتضاعف أعبائها بعد أنْ أنجبتْ حليوة ثلاثة من الأبناء الذكور من أبٍ فقيرٍ ودرويش. فحليوة بكل تفاصيل حياتها قد أصبحت عبئا مضافاً الى أعباء الريلة. مهما يكن من أمر، فقد ساقتها يد المشيئة لأنْ تشترى تلك العبور، وهى الأخرى كانت أحد أعبائها. إنَّ ضيق ذات اليد جعل الريلة تعلف نعجتها فى بداية الأمر إما بالعميوقا، والسنمكّة و الرِمِتْ، وربما بسؤال الناس السماح لها أنْ تَحُشَ العشب النابت على أطراف جداولهم، وفى ذلك تطهير لها و علف لنعجتها ويسمى بالكُدَاد. وقد تجد من أهل الميسرة من يعطيها حوض برسيم. فبين الكُدَاد وعطايا العباد، تأرجح مصير هذه الأسرة ردحاً من الزمن. وأيمُ اللهِ لو أنّ الملكة فكتوريا مرّتْ بواقعٍ كهذا لما بقيت لها عِترةٌ تحكم وتعتلى عرش بريطانيا إلى يومنا هذا، لأنّها قطعاً ستكون قد أقدمتْ على الإنتحار.
يشاءُ اللهُ ذو القوةِ المتين، أنْ تلد نعجة ريلة فى أول ولادة لها ثلاثة حِملان، ذكرين وأنثى. بل قل فرحةً وبشارةً، خروفين ونعجة. وعلى ما فى ذلك من زيادة الكلفة بالنسبة للريلة، إلاّ أنها ولستة أشهر آتيةٍ، فقد تكتفى الريلة ذاتياً من اللبن الحليب و المتخثر (الروب)، وتُكفى بذلك مؤونة السؤال وتكفف الجيران.

(4)

لم أرَ على الريلة، بادئ ذى بدء، زينةً من التى تستخدمها النساء فى ذلك الجزء من العالم. غير أنى كنتُ ألمحُ فى يدها خاتماً من الذهب ويعرف بخاتم الجنيه. بل مع قلة البنوك هناك، فإنَّ النسوة تسميه "أحفظ مالك". فهو غطاء الذهب إذاً لما فى أيديهنّ من عملاتٍ شحيحةٍ، تماماً كما تفعل البنوك المركزية مع البنوك التجارية، أو صندوق النقد الدولى مع دول العالم. ولكن الريلة لا تعنيها كل هذه التعقيدات. فخاتمها قد إختفى فى ذلك العام، وعلمتُ منها أنها قد سيّلته لمقابلة بعض الديون. قلت لنفسى فيما بعد، حين درست الإقتصاد، لعمرى أنّ آدم سمث لم يأتِ بشيءٍ من عنده، إنّه مجرد راصد للحِكَم والنواميس المُسَيِّرَة لسلوك البشر. فما أحوجنا للتأمل أيتها الريلة الخشنة الجمال بكثرة الأعباء و الأشغال. والتى أوشكتْ حياتُها على الأسترجال، كصاحبتنا البنون الضكرية فى أول أمرها.

بعد ستةٍ أو ثمانيةٍ من الشهور، لا أذكر على وجه الدقة، أنَّ جزاراً من القرية المجاورة يقال له "ود مُحى الدين" كان يبحث عن خروف يذبحه، فدله دالّ على الريلة. فجاءها، ورأى خرافها، وأثنى عليها واشتراها. فرحت الريلة فرحاً شديداً، حمدت الله وقالت فى نفسها: "لا كُدادَ بعد اليوم". والحق يقال، أنّ الجاذبَ فى خِرَافِ الريلة أنَّها عفيفة ومعلوفة، لا تهيم فى الأرض تأكل الفضلات والدلاقين. فهى ليست كبهائم ود المادح"، تلك الطليقة على الدوام فى حرث الناس وغرسهم. وود المادح بصنيعه هذا (وهو رجل ذو سَعةٍ، يحب تربية الدوابِّ والانعام ولكنه لا يبالى بها ويهملها)، فهو فى عِراك دائم مع "عوضْ عَبْدَرْ حَمَان"، مسئول المَربَط، وهو المكان الذى تُحْبَسُ فيه البهائم الضالّة، وتلك التى يتركها أهلها تنفش فى زراعة الاخرين.

على أية حال فإنَّ الريلة إبتاعتْ لبيتها أغراضاً بثمن أحد الخراف، واشترت بثمن الآخر مساحة واسعة من البرسيم. وفى هذا الأثناء، فإنّ النعجة وبنتها كانتا دارَّتين على وشك الولادة. ومن عجبٍ لمّا ولدتا، كل واحدة ولدت خروفين ونعجة. فقد صارللريلة، من غير النعجة وبنتها، أربعة خراف ونعجتان. أما المجموع الكلى فى حظيرة الريلة، فهو أربعةٌ من الخراف وأربعٌ من النِّعاج. ولما كانت النعجة تلد كل ستة أشهرٍ أو ضعف ذلك، فمن المنظور أن يزيد رأسمال الريلة، ويقل تضاعف تعبها ومديونيتها. وبالفعل صارت الحياة فى بيت الريلة تسير من حسن إلى أحسن. فكلمّا إزداد عدد الكائنات الحية فى حظيرتها، تغيرت الحياة فى بيتها، الذى لونته بالجير الابيض، وبدت سيمياء العيش الرغد تظهر على أبناء أُختها. وتوسعت كذلك فى تربية الدواجن والحمام (قُنُّ دجاجٍ كبير وعشرة أبراج حمام). وإنَّكَ لتجد فى مخزنها الحنطة، والذرة، والدّخْن والفول النوبى، وصفائح الزيت. وتجد على وَاوِيرِها (حمّال الملابس) ملابس جديدة وجميلة، حلّت محل الطِرَقْ والخِرَقْ.

أما فى السنة اللاحقة لموسم إخصاب نعاج الريلة الأربع، كل واحدة ولدت توائمها الثلاث - خروفين ونعجة. وبذلك، صار للريلة ثمانية من الخراف وثمان من النعاج. أمّا المجموع الكلى فهو ثمانٍ من النعاج واثنا عشرة خروفاً.

لقد ذاع خبر نعاج الريلة فى كلِّ قُرى منحى النيل، لا لأنّهم يعرفون طريقة وسر توالدها على هذا النحو وحسب، ولكن لأن خراف الريلة من أسمن الخراف التى عرفها منحنى النيل، فهى تعتنى بها عناية خاصة. فقد أصبح الجزارون، زورْ- نورْ، يعلنون للملأ بأنهم سوف يذبحون خروفاً مشترىً من الريلة. ويكفى، لمجرد ذكر اسمها، أنّك إذا لم تذهبْ بعد صلاة الصبح مباشرةً فقد لا تجد لحماً. وحتى الصقور تكثر فى الجو يوم يكون خروف الريلة مذبوحاً. كما أنَّ الأطفال فى يومى الثلاثاء والجمعة تنزّ أيديهم الغبشاء بدهن خراف الريلة بعد أنْ أكلوا القُرّاصَة "بمِلْحِ اللّحم" (الدمعة).

لم ينتهِ ذيوعُ خبر نعاج الريلة عند هذا الحد، فلما ذهبتْ نساءُ حى البساتين يباركنَ الحجَّ لاحدى العائداتِ تواً من بيتِ الله الحرام، عيّرتْ إحداهنَّ الزين بت - طه قائلة: "وا حِليلِكْ يا بِتْ- طه الماعندك وِلادْ يَودوكِ الحَجْ". فردتْ الزين بت- طه شعراً، تجارى فيه قصيدة لإحدى الشاعرات المرموقات بالمنطقة والتى مازالت باقيةً ونابضةً فى منحنى النيل إلى يومنا هذا، بل أصبحت جزءاً من العقل الجمعى للقرويين هناك. فجارتها قائلة:

الحَجْ مُو بَالخَرَاجْ ... لاهو وِلادْ و لا عَاجْ
يوم المنادِ ينادى الفِجَاجْ ... نبيعْ الديكْ والنِعَاجْ
وانا والريلة حُجاجْ ... نطوفْ الكعبة أُمْ زُجاجْ
نلبِّى نَعَدْلْ المزاجْ ... و نمشى نزور السِّرَاجْ

صلى الله وسلم على السراج المنير. فقد حُقَّ للزين بت- طه أنْ تعوِّل على نعجة الريلة، هذى التى أصبحت تتكاثر بتلك المتوالية الهندسية، وصارت مسار حديث الناس، قاصيهم ودانيهم بكل قرى منحنى النيل غرباً وشرقاً. ولله درُّها من نعجة ولود.

(5)

أما الريلة، فكل محاولاتها للتكاثر قد باءت بالفشل. فقد تزوجتْ الريلة، على غير رضاء والدتها، رجالاً غرباءاً لا يَعرفُ أهلُ حىِّ البساتين عنهم شيئاً كثيراً، كأمثال الكرار وآخرين. لكنها لم تستقرْ فى حياتها، لمدة شهرٍ كاملٍ، مع أىِّ رجلٍ قط قبل فيضان 1988م. ولم يستطع أحدٌ منهم أنْ ينال منها شيئاً، كأنها كانت معدةً لدورٍ ما، قبل هذة الكارثة. جزءٌ من هذا الدور أنَّ الريلة عليها ألاّ تتزوجَ قبل أنْ تبرَّ أُسرتَها وتجعلها فى حالةِ إكتفاءٍ ذاتىٍّ. ذلك الإكتفاءُ - الخديعة الذى ثار عليه العِنيد وفقد عقله بسببه. وبالتالى، وفى سبيلِ لعبِ هذا الدوْر، وفى سبيل الاَّ يجفَّ هذا الضرع الذى درّ، وألاَّ يطمع فيه طامع من غير أهلها، فإنَّ والدتها نفَّرتْ عنها الرجالَ الغرباءَ، تماماً كما يُنّفرُ الولدُ من الغريباتِ فى حىِّ البساتين. فقد سمعنا بأُمِّ الوحيد التى ذهبتْ للسَحَرةِ لتمنعَ وَلدَها من الزواجِ إلا بعد أنْ تموتَ، أو بتلك التى استفزَّتْ إبنها من بيت الحياة بعد أنْ تزوجَ بغريبة. فالزين بت طه لم تَدَعْ الريلة لتستقرَّ مع غريبٍ وهى على قيد الحياة. ولربما أنَّ الريلة لم تستقرْ معَ غريبٍ قط لخشونةِ طبعها، وجمالها وعيشها. مهما يكن من أمر، فحين لان عيشُها قليلاً، كانت معنية أكثر بالإهتمام و بالانفاق على أُمها التى شاختْ وأعياها المرض، وأُختها وأولادها الثلاثة، الذين تدرجوا فى التعليم بصورة متفاوتة. لكن أنجبهم لم يتجاوز الشهادة السودانية، غير أنَّ حياتهم قد إستقرّت على متوسط حال من العيش كسائر أهل حى البساتين.

أما حى البساتين، حى الريلة بت – الزين، فتحاصره من الناحية الشرقية سلسلة من التلال الرملية الممتدة شمالاً وجنوباً. أكبرُ هذه التلال، تل يعرف محلياً " بقوز القَلَدَة " (القاف اليمنية). جزء من هذه السلسلة ينهال رمله فى بيت الريلة. بل ثلثا بيت الريلة من الرمال المتحركة. ولتعلم أيها الزائر لبيت الريلة أنّكَ لامحالة تدفن جزءأً غير يسير من بيتها، إذْ أنَّ مدخل البيت هو أعلى التل الرملى. ولذلك فهى فى حالة تعلية دائمة لسقف بيتها. واذا شاء الله أن تزال هذه التلال، فإنّك تجد منزلاً للريلة من عدة طوابق، مبنية كلها من اللّبِن، وهى واحدة من العمارات القليلة فى حى البساتين ولكنها عُمِّيَتْ بالرمل عن الرآئين لحكمة ما، ربما عوامل التعرية أو سيادة قانون اللاّ غنى و اللاّ فقر فى قرى منحنى النيل. ولكن بالرغم من فعل و منطق هذا القانون، كان من المتوقع أنْ يتغير واقع الريلة على نحوٍ ما، ولكنه اُبهم الى حين.

مازالت تَعلقُ ذاكرتى بعضُ الصور لحى البساتين هذا، فيما قبل الطوفان. فحينما تتدحرج الشمس، فى هذا الحى نحو غروبها ، تخشعُ الأصواتُ رويداً رويدا. فلا تسمعُ إلاَّ صوتَ البهائمِ تنادى على أصحابها أنْ هلمُّوا إلينا بالأعلاف. لكن هذا الكورالَ المسائىَّ معَ بدايةِ حلولِ الظلامِ عند نهايةِ كلِّ يوم، ليس من بين أصواته صوتٌ لنعاج الريلة. فنعاجها آمنة مطمئنة يأتيها رزقها صباح مساء وعند القائلة، فخشومها مشغولة. إذْ أنَّ الريلة أصبحت منْ كِبارِ المشترين للبرسيم (والأعلاف عموماً) فى المنطقة. فالنّاسُ ينتظرونها، بل يسعون إليها لتشترىَ منهم. فهى مصدر مهم للسيولة فى ذلك الجزء من العالم والذى بالكاد أنْ تكون نصف معاملاته أقرب ما تكون للمقايضة منها إلى استخدام النقود وفقَ قواعد اللّعبة الإستعمارية.

كذلك عند الغروب كثيراً ما يتناها إلى سمعك، صوت "أبْ-هِمّة"، ذلك الإنسان الذى يقف على مسافة متساوية من الرجولة والأُنثوة وكل الثنائيات والأضداد، وهو ينادى : "عَىْ النهايم لا ورا" (يزبُّ بهائمَ الغيرِ عن بهائمه بصوتٍ نصف مخنوق). ومن عجبٍ فإنّ عبارة "عَىْ النّهايمْ لا ورا" أصبح يرددها الساخرون وغيرهم من أهل حىِّ البساتين كلما أراد أحدٌ أنْ يتجاوز منطقَ الأشياءِ عندهم قولاً أو فعلاً حتى أنَّها ألآن تمشى مثلاً بين الناس. كذلك ومن الأصوات الراتبة عند الغروب، صوت "ودْ عَرَفَاتْ" وهو يجادل الذين لا يتقيدون بلوائح المشروع فى مسألة الرى من الجدول الرئيس "الجَنّابية"، أو صوت جدى وهو ينادى على جحشٍ تأخر عنه بالعدو يمنة ويسرى فيناديه : "حُوْ .. حُوْ .. طَرَشْ .. طَرَشْ". أو ربما صوت عوض عبدر حمان وهو يُحاجّ ودَّ المادح فى أنْ يدفع الغرامة كى يسرِّح له بهائمَه من المَرْبَطْ، وبالطبع لا تعرف نعاج الريلة بت - الزين هذا المكان. ولكن تخفت كل هذه الاصوات حين ينادى المنادى لصلاة المغرب، إلاّ من صوتٍ نشازٍ انشغل عن تلبية النداء بدنيا من الدنياوات. أو صوت بهيمة من البهائم تأخر أصحابها لسببٍ ما عن إحضار علفها فى الوقت المناسب. فالبهائم تفضحُ أصحابَها. فإيغالُ أصواتها فى الليل يشى بأنّ أصحابها فقراء، كالأرامل والمسرّحات وكبارِ السّنِّ الذين لم يُرزقوا الولد، وسائر من يعيشون على هامش الحياة هناك، والسابلة من الحلب و التكارين.

أما بهائم الريلة، فقد ملأ خبرُها كل الآفاق، لا بكثرة صياحها فى الَّليل. ولكن بكثرة إعجاب الناس بطريقة تناسلها. فأصبح الناس يأتون بإناث نعاجهم الى حظيرة الريلة بغرض تحسين النسل. هذا الأمر أصبغ على الريلة نوعاُ من الأهمية على نحوٍ ما، وكثيراً ما كانت تفتخر بفحولة خرافها، وينالها شئٌ من المتعةِ والجمال حين تنظر عنوةً أوخِلسةَ إلى خِرافها وهى تُعَشِّر النعاج المجلوبة. وفى واقع الحال كل شئ حول الريلة بدأ يتحسن ويكتسب أهميته، وصار حالها من سائر حال أهل حى البساتين لا فقر لا غنى. وشيئاً فشيئا بدأ يدبُّ الى اُذنيها وجيدها ويديها صفارُ الذهب وكذلك نقوش الحِنَّاء. لكن كل ذلك لم يجلِبْ لها بعلاً ولا اهتماماً من شخصٍ ذى بال، فهى الى خشونة جمالها فقد تقدمت فى السن. فلم يطلبْها أحدٌ حتى الآن لشئٍ تُطلبُ من أجله النساء.

(6)

الحياةُ هنا تَتَحَنَّطُ بمنطق قانونها العجيب، وتُدارُ من غياهبٍ بعيدة. فكيف لأعيان البلد إذاً أن يقولوا أنَّنا تجاوزنا منطقه، ولسان حال الناس يصف الدنيا بقولهم: " تَلَّبْ ما لِحِقا و وَدْ جَارَة ما فَاتَتُو ". من الذى يتحكم في الأوضاع هنا، أهِىَ الأقدار؟ مِنَ اللهْ على الأقدار! لماذا لم يفِضْ الناس على هذا المنطق كما فاض النيل فى عام 1946؟ حينما سأل وَدْ رَجَبْ عن أرضَ والده، فقال له أعمامُه إنَّ أرضَه بفلسطين، حيث كان يحارب منذ وعد بلفور هناك؟ فقال ود رجب: أنا أعرف كيف أُخْرِجُ أرضَ والدى منكم يا وِلاد الكلب. فنزل ليلة الفيضان، فى تمام تَسَابِهِ، إلى النهر. وهشَّشَ الجسر بحيث أنَّ موجة صغيرة سوف تكسره. فعل فعلته التى فعل، وعدا الى أعمامه عدواً، لينبئههم أنَّ الجسر قد إنكسر لينجوا بأنفسهم. إِتُّهِمَ ود رجب بكسر الجسر وإغراق قرى منحنى النيل بمياه الفيضان وسيق إِلى المحكمة الأهلية التى يترأسها المأمور (المأمور الذى سوَّى له درباً بأرضنا، وأُخدوداً بذاكرتنا) والعُمدة (العُمدة الذى كلما جاء أهلنا ليسجلوا أرضاً، سجَّل رُبعَها فى إسمه). ولمَّا سُئلَ ما إذا كان هو الذى كسر الجسر فقال: نعم، أنا الذى كسرته فى منحنى النيل، وفى البُرْقيْق، وفى القُرير، والغابة، وحوض لَتَّى، وحوض السليم، فى نفس الليلة. ولحسن حظه كان النيل قد كسَّر كل الجسور التى عُمِلَتْ فى هذه المناطق. فبرَّأته المحكمة يومها. فقال لإعمامه: أرِضْ رَجَبْ طَلَعَتْ ولَّا ما طلعتش يا وِلاد الكلب. فبعد ذلك قسَّموا الأرض الجرداء، مَوَتْ، بينهم بالتساوى.

ومنذ فيضان ود رجب، فإنَّ إختلال منطق ذلك القانون فى منحنى النيل، قد تُرِكَ للفيضانات والكوارث الطبيعية. وفيما بعد، أضافَ إليها السكرتيرالعام للحزب التقدمى السودانى الدعاء فى السجود وفى يوم عرفة. ففى فيضان 1988م، هلك الزرعُ والضرعُ وذابتْ معظم البيوت والفروقُ الضئيلةُ بين الناس، فى الماء، إلاّ البيوت والبهائم التى على تلال الرمل، كبيت الريلة وحظيرة نعاجها، فلم يمسهما الفيضان. لقد كان على قمة تل الرمل قِبالة بيت الريلة من كلٍ زوجين اثنين: النَّاسُ ذكرانهم وإناثهم، الدواب، والأنعام، الثعابين، العقارب، وجميع الهوام كلها على التل. لم يُسمع بأحدٍ قتل عقرباً أو لدغته عقرب، كأنهم كلهم على ظهر سفينة نوح. لقد هلك معظم المواشى فى ذلك الفيضان، ولم تهلك للريلة ولا نعجة واحدة. بل كان مُراحُها مصدر خير كثيرٍ لكل الناس. فكفاهم الله بسببه مسغبة تلك الايام، وأطعمهم من نعاج الريلة لبناً ولحماً وثريدا.

ولما انحسر الفيضان واستوى أمر الناس على جودىِّ واقعٍ مغاير، لا مأوى، لا زرع، ولا ضرع، هلك كل شئٍ تقريباً، بدأ الناس يرحلون الى الغرب من حى البساتين القديم بنحو ثلاثة كيلومترات، وبدأت الحياة تأخذهم شيئاً فشيئا. الكل يبنى ويعمر ويستجمع قواه، والقوى والضعيف يعملان معاً لتجاوز الأزمة. كانت الريلة أغنى الناس فى ذلك الواقع. بما تمتلك من مُراحٍ كبيرٍ من الخراف والنعاج. و لكن الريلة تحسَّرتْ حينما علمتْ أنَّ جُهدَ الناس بالكاد يكفى لإيواء ذواتهم. وألاَّ أحد يستطيع فى الوقت الراهن أنْ يعيد بناء المرافق الخدمية التى بُنيتْ بالعون الذاتى وعلى عددٍ من السنوات، كالصهريج، الشفخانة، المدارس، وفصول محو الأُمية. فبدأ يدبُّ إلى أوصالها إحساس بالعجز، والخوف من الإرتداد إلى أيام المرض والتعب والأُمية.

أمّا الحكومةُ خضراءُ الدِّمَنْ، كعادتها فى كل الأوقات، فقد كانت منشغلة عن هموم الناس بتسخير جهاز الدولة ليغنى أهل السلطان على حساب شعبهم، وبالأِنغماس فى صراعاتٍ حزبيةٍ وطآئفية لا طائل منها، ولم تلتفت لأغاثة ملهوفٍ أو نجدةِ منكوبٍ، الى أنْ طافَ عليها طآئفٌ بليل، فأخرجها من الحاضر وأدخلها فى التأريخ، قبل أنْ يجفَّ طمى الفيضان.

والريلة بهذا الوضع الأجتماعى الجديد، وإطعامها النّاسَ أيام الفيضان، جعل الناس يذكرونها بالخير ويهتمون بها. و هى التى لم يشفع لها نسبها الشريف فى جلب الأستقرار فى حياتها، كما أنَّ جمالها الخشن وحِدَّة طبعها، كانت هى الأخرى عوامل منفرة للناس من حولها. على اى حال، فى هذا الوقت المفصلى من تأريخ حياتها، عنَّت لود المادح، وهو المتزوج من امرأتين قبلاً، فكرة أنْ يطلب يد الريلة والتى ماتتْ أُمها وتشتّتَ أبناءُ أُختها يبطشون فى الأرض وقد اصطحبوا معهم أُمَّهم. وهى المنهكة المتعبة والمنتظرة لهذه اللحظة من أى رجل من رجال حى البساتين يقيها شرَّ ذلك الشبح المُخيف، فقد قبلت على الفور، فتزوجها ود المادح على الفور، وصار لها أهلاً. وقد قال، يومها، المتهكمون بالحى: " لقد أطالَ اللهُ أعمارَنا وعشنا وشفنا اليوم الذى تنكحُ فيه المرأةُ لنِعَاجِها". فقد قصد هؤلاءِ بذلك، أنَّ ود المادح مُكتفٍ ذاتياً من النساء، فله من قبل زوجتان، والريلة ملامحها ذابلة ومسترجلة. ولكن بقيتْ له واحدة، بحسب معادلتهم الساخرة، وهى رغبتُه فى إمتلاكِ أنعامها، وهى الآكد بحسب ظنِّهم.

هذه المرأة التى كانت تنفعلُ لأقلِّ القليل على أيامها الأُولى تلك، لم يعد يُسمعُ لها صوتٌ وكأنها قد ابتلعتْ لسانها، أو دخلتْ إلى كهفٍ لم تدركه اللغات. تركتْ إدارة أموالها لزوجها ود المادح. ولما كان ود المادح لا يحسنُ إدارة الأعمال و لا إدارة الأنعام، فإنَّ نعاجَ الريلة بدأتْ تخرجُ الواحدةُ تلو الأُخرى، خروجاً بلا عودة، ومن بقى منها لم يعدْ يتناسلُ بذاتِ المتوالية الهندسية. فلمّا كان عام 1988م أشبه بعام الرمادة على أيام الخليفة الخطاب رضى الله عنه، اضطر ود المادح لأن يبيع معظم النعاج لعدم وجود الزرع، والذى هو الآخر هلك بالفيضان. هذا الواقع قلّلَ فرصة تكاثر نعاج الريلة على النحو الأوّل من حياتها.

وأعجب ما فى الأمر أنَّ الريلة لم تعبأ بذلك مطلقاً وهى التى تعبت كل التعب حتى ملأت شهرة نعاجها الآفاق. لم تتطير لزوال نعمتها بدخول ود المادح فى حياتها. لقد ذهبت كل النعاج، كان آخرُهنَّ خروجاً، النعجة الجدّة. فقد كبرتْ فى السن وصارت قليلة الحركة و منهكة بكثرة الولادة، وسقط معظم شعرها. وأصبح جلدها العارى يُغرى الضآلَّ من الكلاب وحشرة النَّمِتّى، فوجدتها الريلة متعثرة فى حبلها وقد فاضت عنها الروح.

حزنت الريلة حُزناً شديداً، تماماً كاليوم الذى ماتت فيه والدتها الزين بت طه، ووَلْوَلَتْ فاجتمع عليها النَّاس. والكلُّ ظنَّ أنَّ وَدَّ المادِحْ قد مات. لكنه لم يمت، بل ماتت نعجة ريلة، وعاش ود المادح رحمه الله، بِضعةَ عشراً من السنين بعد ذلك، قضتها الريلة معه فى دعةٍ وهناءةٍ واستقرار، برغمِ جور الحكام وسفههم. ولما مات، وَرِثتْ منه خيراً كثيراً كما ورثها وهى حيةً.

إِلتفتتْ الريلة، بعد حَبْسِهَا، بذاكرتها إلى الأمامِ وإلى الوراء. وأرسلتْها فى طلب فاطمة مديرة محو الأُمية، و عضو الجمعية النسوية عشة التمرجية وأمينة مكافحة العادات الضارة. قطع حدسها رجلٌ دون الثلاثين ببضعِ سنين، يعمل طبيباً بمنحى النيل ويسكن بالعاصمة، يَعفى كلَّ أشيائه، فله "عجيزةٌ كعجيزةِ مهرٍ جيد التغذية"*، وكرش حوت، يمشى كما تمشى البطاريق، وله عربة لاندكروزر- مونِكا بداخلها عُرفيةٌ يتسلى بها فى أثناء التسفار لمناطق الشدة بين الريف و الحضر. دلق حُلْمَها حين قال بصوتٍ مخنوق: عَىْ النَّهَايم لا وَرَا. رفعتْ الريلةُ فى وجهه إِصْبِعِ الجدل، لكنَّ مونِكا أخذته بعيداً عنها وخلَّفتْ غبارَها. إتَّقتْ الريلة غبار مونكا بطرف ثوبها، وطاردته ببيتِ شعرٍ هو حيلتُها فى مثل هذه المواقف، فأنشدتْ تقول: "كَوْنُو مِتْل ارْتيْق الصّباحْ ... كان على وَحْدِين دَحِين راح"**.

تَمَّتْ.

حاشية:
* التعبير للروائي شولوخوف.
** البيت لجدنا حسين ود مُحُمَّد.

Hussein -abul-Haj
مراقب

عدد المساهمات : 192
تاريخ التسجيل : 20/02/2010

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى