فى الذكرى الأُولى لرحيل سيدى الشيخ الطيب محمد صالح قدس الله سره، وبعض إنطباعٍ عن المختارات.

فاتحة :

سئل الطيب صالح من قبل استاذه فى مدرسة وادى سيدنا : ماذا تريد ان تكون فى المستقبل؟ اجاب الطيب: "اريد ان اموت".

مداخلة :


الكتابة عند حبيبنا الطيب الصالح هى، كما تعلم أخى القارئ الكريم، تعبير عن حالة عشق صوفى، لمتأمل موسوعيِّ المعرفة، وفوق ذلك ملهم و موهوب. وفى واقع كهذا علينا أن نتصور الغايات وأدوات الوصول إليها. أمّا الغايات فهى الكمال والجمال، والأدوات هى صيغة منتهى التعبير اللغوى للعاشق، لأنَّه تعبير عن جمال كامل، أو كمال جميل. إذاً، عند هذا الصوفى العاشق، فالكتابة حالة إبداعٍ تعبدية، ويتقرب لله بجمال العبارة لوصول تلك الغاية. لذلك كان التعبير اللغوى عند العارف بالله سيدى الطيب الصالح، مِعراجاً جمالياً متماهٍ فى تلك الغاية.

كان ذلك اول طرقه للحياة، ومن كان ذلك طرقه، فهو طرقه، كذلك يطرق كل ذى همةٍ نحو غاية بعيدة. فالتعبير اللغوى عن هذه الغاية، و المجسم فى رواية موسم الهجرة الى الشمال، هو كما تعلم اخى القارئ الكريم، من أعلى أنواع التعبير التى عرفتها الانسانية فى مجال الادب. فالطيب الصالح يكثف المعنى فى اللفظ حد الإستغاثة. فكل مفردة عنده فى حالة إنفجار إبداعى (عدتُ، أُنظر باب عاد فى مختار الصحَّحاح)، و من يجلس إليه يمتلئ بالمتعة، لكأن جليسه فى بستان (خمرنا خمر المعانى عُتِّقَتْ من قبلِ آدم .. ولها نحن القنانى من زمانٍ قد تقادم) (النابلسى).

وقد عبر عن حالة التكثيف هذه احد الكتاب الفلسطينيين فى ثمانينات القرن الفائت (اسقطت ذاكرتى اسمه) فى مجلة الكرمل بقوله: "إنَّ الطيب صالح كتب كثيرا، غير أنه لم ينتج سوى موسم الهجرة إلى الشمال". لذلك، لم يكتف حُذّاق المعرفة بقراءة واحدة للطيب الصالح. وبعد القراءة التالية كثيرا ما يتبسم الواحد منهم ضاحكاً من قراءته الاولى. فالعارفون لا يقرؤون له بفعل ماض، بل بفعل مضارع، وهم بذلك فى محاولة مستمرة لتشفير سر عبقريته الفذة.


وفى تقديرى، وهو تقدير إنطباعى، فرضى لشخص غير متخصص، بأنَّ المختارات لا تعدو أن تكون (ولا اختلاف على الفعل الابداعى فيها) سوى حواشى للرواية الام بغرض تلافى فهوم سادت من جراء قرآءات باهتة - بائتة ويعوزها التأمل والاستطراد.

فشاهد الامر كنا نحتاج لقرن واحد لكى نفهم الطيب الصالح، ولكن بعد هذه الحواشى، والتى اراد ان يبين فيها فرمز وأبهم، شأنه شأن الموسوعيين، فالان نحتاج لنصف قرن آخر، اذ ان المفردة اصبح لها فضاء و تماهى جديدين. و مثله فى ذلك مثل المتنبئ، مازال يشكل ظاهرة عصية على الاجتراح و التأويل، أو كإبن العربى فى فصوص الحكم.

فانا لا اقول بانا لا نحتاج ان نبحث عن الطيب الصالح فى شخوصه، فى مفرداته او فى مسكوت نصوصه(Symptomatic Reading) كما يقول بذلك الكثيرون، بيد ان ذلك مفيدا، الا انه لا يستطيع ان يستنضح كل زخائر كاتب متأمل وموسوعى، وكل معانيه، فى حالة تكاثر ذاتى ولانهائي.

وبالطبع هذا الموقف ليس نداءا لرفع الاقلام، فالتثاقف مهم والاستنباط اهم، والقراءة المتأملة لهذا الزخم من المعانى فى علاقتها بغاية الكاتب، هى القادرة على تعرية المفردة من مجازاتها وملامسة حقائق الاشياء. كلما اخشاه ان يكون هذا الرائع قد انجرح من جراء اساءة فهم او قصوره، فانصرف عن ممارسة الابادع الى اصدار شروح لروايته البكر، ويا لكم بشّرنا بعمل رائع مثلها اسمه "جبر الدار"، اخشى ان يكون قد استبدل بهذى الحواشى لذات العلة. وبذلك يكون قد انجز الكاتب زغبته فى ان يموّت حالة الابداع عنده.

فمالنا وماله، ومالنا ومال شخوصه، فاهم من ذلك كله هو غايته وهدفه (الكمال /الجمال)، هل هى غايتنا وهدفنا؟ هل عبر عنا؟ هل وجدنا أنفسنا فيما يكتب؟ فالكاتب المتأمل الفذ كالمرآة، ترى نفسك فيها و لاترى جُرمَها.
__________________________________
منشور بمنتديات أُخرى.

‏ آلا رحم الله الطيب الصالح صلاح أهل الله وأسكنه فسيح الجنات مع أوليائه الذين لاخوف عليهم ولاهم يحزنون.
كنت عندما أقرأ روايته عرس الزين أحس بأن المكان هو قريتنا وأن الأشخاص هم أناس منا _حتي أننا (أنا وإبن العمه خليل أحمد يس)قد حددنا من هم محجوب وشلته ومن هو الزين ومن هو العمده___الخ
‏ فقد كان الطيب صالح معروف بأدبه الجم وتواضعه الشديد وكان زاهدا في الدنيا زهد أهل الله الصالحين.
وأنا كذلك لا أخفي إعجابي بالرجل أستاذنا حسين فالطيب صالح بحق له قدرات خارقه في جزب الناس إليه من كل حدب وصوب ، علي الرغم من أنه كان لا يأبه كثيرا للشهره .
‏(‏ دفنا عند المغيب الطيب صالح كأننا نغرس نخله أو نستودع باطن الأرض سرا عزيزا"سوف تتمخض عنه في المستقبل بشكل من الأشكال)
فله الرحمه والمغفره
ولك أستاذ حسين الشكر الجزيل

سلام على المصعب،
شكراً الإبن مصعب على المرور. أما حبيبنا الطيب رضى الله عنه فشأنه عجيب. فالرجل فى حالة إنجذاب، والمتحدث معه يشغله عمَّا هو فيه وهو الإستغراق والتأمُّل. ما بالك برجل يقول: الشهرة تُوَبِّخنى، فى زمنٍ يتجمَّلُ فيه المشاهير من أمثاله للكميرات.
لك الرحمات يا سيدى الطيب الصالح، الطيب محمد صالح.

شفيف الود.

ألا رحم الله ذاك الرجل الطيب الصالح
ملك الرواه والرواية
اذكر انني قرأت روايته موسم الهجره الي الشمال اكثر من خمس مرات وفي كل مره اشعر وكأني اقرأؤها لاول مره وكذلك عرس الزين كما قال مصعب تلتمس فيها اشخاص حقيقين يعشون بيننا فهو بلا منازع عبقري الرواية

ألاف التحايا
عبدالرحيم محمدنور

سلام على عبد الرحيم محمد نور،

قُرَّاءُ الطيب صالح يتقاطرون جيلاً بعد جيل. فالرجل يشكل علامة فارقة فى النبل والإنسانية والحب. وهذى لعمرى تشكل أُس تمدده فيما وراء البحار. وإنَّه لمن دواعى السرور أن يكون بين هذه الأجيال رِفقة من بنى دهمش. إذاً، معاً نحو توسيع المدارك لإستيعاب المحمول الثقافى الكامن فى الحرف الطيَّبىّ.

الود الذى تعلم.