إتكاءة في عينيها

كنت في بلد آخر وأشواقي تفيض بحوراً وادمع عيني تتبخر لتملأ السماء سحباً كثيفة ، فكرت في العودة بعد زوال العائق الذي كان يحول من رجوعي الي ديارها ، فحزمت حقائبي وتوجهت نحو موقف الباصات وقطعت تذكرتي وكعادتي اخترت مقعداً بجوار احدي نوافذ البص كي أتفرج علي مناظر القري في جانب الطريق اذ انني ليس من النوع الذي ينام اثناء السفر ، تحرك بنا البص بعد طول انتظار وظل يشق القفار التي ليس بها سوي شجيرات الحراز المتناثرة هنا وهناك بعد أن خرج بنا من المدينة ببضع كيلومترات ، احياناً تري رؤوس منازل قرية من بعيد خلف السراب الممتد علي مد البصر ، فتسمع من يتعجب موجهاً الحديث الي من يرد عليه كي يكسر الملل بشئ من الانس " والله السودان دا كبير خلاص !!! " وهناك آخرين استرخوا في نوم عميق تسمع لهم شخير كأنهم يرقدون علي أسرة ، وبعضهم تراه وقد مال علي كتف جاره في حركة ثقيلة . بعد أن قطع البص حوالي نصف المسافة كان معظم الركاب اما نائم او متناوم سوي القليل جداً وكنت من هذا القليل اراقب شجيرات الحراز المخضرة رغم انه لا وجود للماء تحت شمس مايو الساطعة ، وأخيراً لاحت لنا "بويتات" لا يتجاوز طولها المترين تقريباً فقالوا هذه " قهوة حاج التوم " ، فنزلنا وتزودنا بشئ من الماء والطعام ثم واصلنا مسيرتنا من جديد ، لكن هذه المرة بدت القري متقاربة نوعاً ما مقارنة بما تركنه خلفنا من أشجار الحراز .
بعد حوالي الست ساعات علي متن البص وصلنا الي المدينة ، ومنها ركبت احدي الشاحنات النصف نقل " البوكس " وتوجهنا الي ديارها ، نزلت من العربة " البوكس " مرهقاً متوجهاً نحو الدار ، فجأة تلاشي الارهاق وشعرت باحتفالات وكرنفالات قد أقيمت داخل قلبي في تلك القصور التي تقطن بداخلها بكل شموخها الذي يباهي النخيل قامة وقواماً ورشاقة ، فتصعد انعكاسات دواخلي الي ثغري لترسم ابتسامة لا ارادية لا تخفي علي الناظرين ، فكانت الصدفة السعيدة أن أول من أقابله كان هي ، وكان قبلها انتفاض واضح في القلب وكأنه أحس بقربها قبل ان ترسل عيني إشاراتها الضوئية التي تحمل في طياتها صورة "ملاك" ، أحس بها قلبي ثم ارسل إنذاراته الي ، عندها ترجم المخ إشارات العين ، كانت رسالة العين ان هناك فتاة لا يستطيع قلمي ان يعطيها حقها ومستحقها من الوصف ، انها هي .. انها ملاك ، فتجمد فكري لحظة وانعقد لساني فبادرتني بتلك الابتسامة الرقيقة التي تأسر النفس وتشرح الروح ، مدت يدها فصافحتها حتي خفت علي يدها أن تذوب داخل يدي ، صافحتها وعيناي تتأملان عيناها بل تغوصان داخل متاهات من المدن الفرايحية ... مدن الحب ، وتسمرت عيناي تتأملان تلك العيون المدن وأذناي تنصتان لهمسها ، انه موسيقي عذبة تنساب من بين شفتيها الرقيقتان بكل سلاسة ، وما زلت في تلك الحالة من الوعي واللاوعي حتي انتبهت لعيني شاردتين
فقالت : مالي أراك سارح ؟!!
قلت : بل أنا سابح
قالت : وأين تسبح ؟؟
قلت : في بحار حواليها مروج بها أزاهير وعصافير و أنهار و .. و .. و ..
قالت : هل جننت ؟؟!!
قلت : ومن قال لك أني كنت يوماً بعقلي منذ أن عرفتك ؟ ألم تأخذي عقلي وقلبي في وضح الصباح ؟ وتركتني أجوب البلاد بحثاً عن مرافئ عينيك خلف كل الأرصفة ؟.